الخميس، 15 أبريل 2010

من رواية الأخدود ( مدن الملح )

عبدالرحمن المنيف*
في وقت من الأوقات كانت حران مدينة الصيادين والمسافرين العائدين، أما الآن فلم تعد مدينة لأحد. أصبح الناس فيها بلا ملامح. إنهم

كل الأجناس ولا جنس لهم. إنهم كل البشر ولا إنسان. اللغات إلى جانب اللهجات والألوان والديانات. الأموال فيها وتحتها لا تشبه أية

أموال أخرى. ومع ذلك لا أحد غنيا أو يمكن أن يكون كذلك. كل من فيها يركض، لكن لا أحد يعرف إلى أين أو إلى متى. تشبه خلية

النحل وتشبه المقبرة. حتى التحية فيها لا تشبه التحية في أي مكان آخر، إذ ما يكاد الرجل يلقي السلام حتى يتفرس في الوجوه التي تتطلع

إليه، وقد امتلأ خوفا من أن يقع شيء ما بين السلام ورد السلام.





هكذا رآها محمد عيد وهو ينظر إليها من جديد. لقد عاش هنا سنوات عديدة. عاش البداية كلها. رأى الأحجار وهي تركب بعضها وترتفع

لتصبح بنايات عالية. ورأى الشوارع وهي تشق لتصبح مسالك للبشر والدواب والسيارات. ثم رأى الدكاكين والمطاعم وهي تتوالد مثل

الفطر. ورأى دار الإمارة والقيادة ومستشفى الشفاء. أما الآن وهو يصلها لكي يستقر فيها مرة أخرى، وعندما ينزلق في فندق زهرة

الصحراء، ثم يتجول في الأسواق والأحياء، فإنه ينكر تماما أنه كان هنا. لا يعرف شيئا. لا يعرف أحدا. ولاشيء مثلما كان من قبل.

حتى دار الإمارة، على التل الشمالي، أصبحت الآن سجن حران المركزي. أما القيادة العامة التي كانت مقرا لجوهر فقد تحولت إلى

مخفر للشرطة.




مستشفى الشفاء، الذي قضى فيه معظم وقته حين كان في حران، تحول الآن إلى مستشفى الغرباء. أما عيادة الدكتور المحملجي فقد

أصبحت مصبغة الشرق للتنظيف على البخار. ومكان مقهى الأصدقاء قامت عمارة البهلوان. أما شارع الراشدي فقد هدم القسم الأكبر

منه ثم أعيد بناؤه من جديد. صحيح أنه احتفظ بالاسم، لكن الكثيرين أطلقوا عليه اسما آخر: السوق العتيق.




دار الإمارة عند المطالع، على طريق عجرة. أما دار الأمير فقد أصبحت في الناحية الثانية من المدينة، فمنذ أن لم تعد حران سوى

المصافي وميناء التحميل والدخان، بنى الأميركيون مدينة جديدة إلى الشرق، على مسافة اثني عشر ميلا. وحملت هذه المدينة اسم المكان

الذي شيدت عليه: راس الطواشي. وفي المدينة الجديدة قامت أحياء التجار والأغنياء وكبار الموظفين، غير بعيد عن الأحياء التي يسكنها

الأميركيون. وهناك أقيمت الدار الجديدة للأمير.




أما الأحياء التي كانت على التلال الغربية، وقد أطلق عليها في البداية "حران العرب،" فقد تحولت شيئا فشيئا إلى أسواق تجارية، بعد أن

هدمت وأعيد بناؤها أكثر من مرة. وتفرق أهل حران والناس الذين سكنوا هذه الأحياء في أنحاء متعددة، وراء التلال وقريبا من

المحاجر. ومعسكر العمال الذي كان في ذاك المكان المتوسط بين حران الأميركان وحران العرب أصبح الآن مستودعا كبيرا للآلات

والمعدات، وفي جانب منه تراكمت بقايا السيارات والإطارات القديمة والبراميل. وقد حصل هذا نتيجة موت عدد من العمال اختناقا، بعد

أن أخذت تتساقط فوق المعسكر الغازات المتولدة من المصافي. نقل العمال إلى مكان بعيد بين حران وراس الطواشي.




وما يقال عن هذه الأماكن يقال أيضا عن كل الأماكن. حتى الجامع الذي يفخر الحكيم أنه تبرع بمبلغ كبير من أجل تشييده، والذي ما زال

في مكانه، دب إليه الهرم، وأصبح قبيحا أميل إلى السواد. وأحاطت به مجموعة من الأبنية العالية، وغطته طبقات من الدخان والغبار.

ولما سأل محمد عيد عن فرن عبدو محمد، وعن أبي كامل اللحام، حاول الذين سألهم أن يتذكروا متى هدم الفرن والمجزرة، ولكنهم لم

يكونوا متأكدين من إجاباتهم. وبعضهم لم يتذكر أبدا.






حتى المقبرة لم تبق مكانها، فبعد أن أعطى الأمير الجديد، عبد الله الشبلي، أهل حران ومن لهم من موتى في هذا المكان، فرصة خمسة

عشر يوما ليرفعوا عظام مواتهم من هذه القبور، جاءت آلات ودرست ما بقي ومن تبقى، ورغم أن ابن نفاع صرخ وشتم وبصق في

وجوه سواق الآلات، لم يجد حلا في النهاية سوى أن يركض مع عدد من الفقراء ليرفعوا عظام بعض الموتى قبل أن تدوسها وتمزقها

الآلات. أما ابن نفاع ذاته فقد مات بعد أيام قليلة من "افتتاح" المقبرة الجديدة على طريق عجرة وتسويرها بسور عال.






قال محمد عبد لنفسه وهو يتجول في الأسواق: "رائحتها لا تطاق. تشبه رائحة الموتى." وبدأ يتذكر من جديد: "لا تشبه أية مدينة أخرى،

ولا تشبه نفسها، والناس فيها اجتمعوا بالصدفة، ولن يستمروا طويلا، تماما مثل ركاب سيارات عبود السالك."




وحران بمقدرا ضجة نهارها، فإنها في الليل، في ظل اللهب الذي تبثه المصفاة، مدينة الأشباح والصمت، إذ ما عدا صافرات البواخر

وهدير المحركات، التي تصل ميناء التحميل، والذي لا يبعد أكثر من ميلين، يظن الإنسان أنها جزء من الصحراء التي تليها. حتى

الأنوار المنبعثة من أعمدة الشوارع تبدو كابية لا ترى تحت وهج الكتلة البرتقالية المسودة التي تشكل سقفا هائلا للمدينة وما حولها.






وإذا كان محمد عيد قد احتمل أصياف حران سنينا عديدة، فإنه الآن، وهو يصلها، يشعر بالاختناق، ليس من الحرارة وحدها، وإنما من

الجو الثقيل المنتن، الذي هو مزيج من كل الأشياء معا: البترول والبهارات والكبريت والصحراء والغبار وبقايا الأكل والأسماك الميتة

وإطارات السيارات المحروقة، إضافة إلى رائحة البشر، فيصبح الجو عندئذ كريها لا يطاق. كانت حران في وقت سابق أكثر رحمة،

وكان بإمكان الإنسان أن يتعود عليها أو يحتملها. الآن، وفي ظل الحالة النفسية التي تسيطر عليه، تصبح مدينة معادية، قاهرة، وأشبه ما

تكون بالقبر.


-----------






مقطع من رواية الأخدود (إحدى رواياث خماسية مدن الملح).

نقل من موقع أدب الموسوعة العالمية للشعر العربي

*عبد الرحمن المنيف (1933 - 24 يناير 2004) اسمه الكامل: عبد الرحمن إبراهيم المنيف, ينتمي إلى قرية قصيبا[1] بمنطقة القصيم الواقعة وسط المملكة العربية السعودية, يعود في نسبه إلى قبيلة بني خالد العربية المعروفة، كان والده من كبار تجار العقيلات الذين اشتهروا برحلات التجارة بين نجد والشام واسم شهرته ((عبد الرحمن المنيف)).




يعد عبد الرحمن المنيف أحد أهم الروائيين العرب في القرن العشرين؛ حيث استطاع في رواياته أن يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي العربي، والنقلات الثقافية العنيفة التي شهدتها المجتمعات العربية خاصة في دول الخليج العربي أو ما يدعى بالدول النفطية, ربما ساعده في هذا أنه أساسا خبير بترول عمل في العديد من شركات النفط مما جعله مدركا لاقتصاديات النفط، لكن الجانب الأهم كان معايشته وإحساسه العميق بحجم التغيرات التي أحدثتها الثورة النفطية في صميم وبنية المجتمعات الخليجية العربية.

يعتبر منيف من اشد المفكرين المناوئين لأنظمة كثير من الدول العربية. من أشهر رواياته "مدن الملح" التي تحكي قصة اكتشاف النفط في السعودية وهي مؤلفة عن 5 أجزاء، ورواية شرق المتوسط التي تحكي قصة المخابرات العربية وتعذيب السجون.


.................. شـــــــــعـــــــــر ..................

محمد بن فطيس المري علم الرسام لا يتعب يدينه  وعلم المرسوم ماله فيه حاجه   طاح في موقف عسى ربي يعينه وحاول ايخبي عن الناس انزعاجه واحتقر رسما...